Header Ads Widget

المسافر |جريدة زادك


إليك يا موطني الاخير، وقطرات العرق على جبيني، إليك فقط أهدي هذه المغامره

....

المكان محطة قطار طنطا،

إنها الساعة الأولى من الصباح، الشتاء لا يعرف متى تبرز الشمس في كبد سمائه، لكن نسيم صباحه منعش، أنا هنا أحد ركاب قطار رقم 289 المتجه من الاسكندرية إلى أسوان، قطارات مصر التي تعاني لكنها تحب السفر، على الجانب المقابل لمقعدى الفردي، كان رجل سبعيني، يجلس راخيًا جسده النحيل، نظارته الشفافة تلمع عليها نظراته لوجوه العابرين، أنه يتفحصهم لا ينظر إليهم، وعلى الجانب الآخر تجلس ابنته، هي في سن الشباب، أستطيع أن اقول أنها لم تكسر حاجز العشرين بعد، أن لم يكن لردائها الفضفاض هو الذي يضفي عليها طابع الطفوله، كانت تتأمل والدها من حين لآخر، تشرع في الحديث، تصمت قبل أن تبدأ، أشعر أن هناك (أنٓ) في الأمر، لكن هنا صمت في العربه، ضجيج على الأرصفة، إلا من أصوات الباعة الجائلين، وبائع كتب على الرصيف الآخر يحملق عينيه في وجه الرجل، مما جعله يبتسم، وجهه كأنما يقول "حقًا هو أنت" طرق زجاج النافذه المجاور للرجل، يستأذنه أن يتحدث له ولو لثانيه، كان الرجل قد رحب ، زجاج القطار لا يفتح، القطار لم يترك مجال لتكتمل الصوره، كان قد أنطلق يستكمل رحلته، أثارني فضولي، الرجل يشبه كاتب ما، ربما رأيته على غلاف كتاب، او على التلفاز، لكن ذلك منذ زمن، لقد تذكرته، لقد نظر ناحيتي، عرفته، هو نعم، ابتسامته، كانت تكفي لأتاكد من شخصيته، بعد صمت لم يدم لدقيقتين ربتت الشابة علي يده، ونظرة نظرة عطف، وحب، كأنت تشعر بالفخر بعدما حدث، تريد أن تقول أنه أبي،. انتبهوا ايها الركاب و المسافرون بينكم كاتب مشهور، لكنها تعلم أن كتاباته أصبحت أثر في مكتبات البائعين، باغتها هو بنظرة وإشار إلي الشاب، مبتسم مره أخري، لترد هي..

"هل هذا ما تهواه نفسك؟ هل مازلت تمني نفسك بشيء من الوصول؟ هل ستظل تهرول خلف هذا البعيد؟"

تنهد وأعتدل في جلسته، ثم أكد شخصيته لي بعدما سمعت صوته المتميز  

"ربما لن أتوقف أبدا يا حبيبة، الأيام بكافة أسلحتها لن تستطع نزع القلم من أناملي، طالما هناك قضية يا حبيبه، هناك رسائل يجب أن تصل، لو تعلمين، أن هناك أناس يتنفسون بين الورق، يدمنون رائحته، لو تعلمين أنهم يمزقونني بين طياته، يقابلون أنفسهم فيه، يهون عليهم ويهون علي، لن أكف عن الكتابة يا حبيبه"

في دهشه، أمسكت الفتاه بيد والدها، تضمها بين راحتيها،

 "آلم تقل أن النهاية قريبه، أنك خائف، أنك تحاول أن تبتعد؟"

 نعم قلت ذلك، نعم، لكن مما أخاف، وأي نهاية، وعن أي شيء أبتعد، لا يعرف العالم ذلك، أنا يا حبيبه أقصد نهاية القُدرة، يوم أن تغلبني صحتي فلا أستطيع الكتابة، أخاف من الوحدة، فلا أريد ألا أجد من أملِله فيكتب، أخاف كل الخوف من أن أرحل قبل أن أتم رسالتي، البشر جَمِيعًا يحتاجوا إلى من يصدق قوله، يراقبهم، يواسيهم، وأنا أيضا احتاج لذلك، بل أشعر بكل ذلك، كلما قرر أحدهم محادثتي بشأن مخطوطة ما، عندما يهاجمني قارئ، أو يلتقط تذكار معي، هكذا جميع من صدقة أقلامهم يا حبيبه"

نفخت حبيبه في ديق ناظرة للأعلي،  

 "لكن حتى متى، المال قليل، وأنت تحتاجه. هناك من هم مثلك ولكن لديهم الإف الآلاف وسيارة على أحدث صيحة"

 "مالي ومال المال والناس، يا حبيبه، يا ابنتي، المال يفني، العمر يفني، رحلتي في هذه الحياة لا تحتاج المال ولا السيارات، هناك رحلة أخرى، أبديه، هي ما يجب أن نطمع في نعيمها"

"لم أقل لك ذلك، أنت مسن وعلاجك يحتاج الكثير من المال، لماذا لا توفق علي أي عرض من العروض التي قدمت لك"

ضحك ضحكته العجوز ثم سعل وقال

"عروض، وأي عرض أقبل، المسلسلات أم الافلام، كتاباتي التي سهرة ليال طوال ادونها, ارتبها, اراجعها الف مره، كيف أسمح أن يأتي أحد المرتزقة ويشوهها، كيف أسمح ليدي أن تكتب ما يبغونه الان في السينما، الافلام التي تتنافس على الاكثر سخافة و عري، أم المسلسلات التي تحاول بكل طاقتها أن تبطل صيام الصائمين و تشوه حضارتنا، لا لن أسمح بذلك أبدا"

جذبتني كلماته، كثيرًا ما تخيلت أن هذا الرجل له ثروة طائلة، لم أصدق للحظة أن هؤلاء الناس المشهورين يعيشون بمثل -الصيت ولا الغني- لا أعرف من هو الأحق بالسيارات والشهرة منك، 

 "حتى لو كتبت لهم أحد الأفلام، هل تظني أنهم سيقبلونه، لا إيحأت، لا بلطجه، لا تشويه، هل تظني سيقبلونه، ذلك لا يقبله إلا الذي هو يقدر دوره ويقدسه، مئات الاعمال مقدمه للمنتجين، لا يجرؤ أحدهم علي تقديمها، حتي الكتب والروايات، لم تعد تهم الشارع المصري، هذا الشارع يهمهم سوا ما تسمونه البرند"

ضحكت الفتاه ثم قالت وهي تنظر في عين والدها "الترند يابابا الترند" نعم هو المصطلح الاغرب في عالمنا، لا يعتليه سوا السفه، قلة من المدعين، أفلام جنسيه، أغاني لا تستحق أن تسمي أغاني، هبوط و هبوط وتدني.

" الشارع لا يحكم عقله مثل أيامكم يا أبي، الشارع يتبع التجديد، لكن هناك جديد يستحق، أعني أن هناك أقلام تكتب، و قراء، وأن كانوا قليلين في هذا الزمان، لكن يا أبي برأيك ما السبب في كل ذلك؟"

هنا أتسعت حدقتى عيني وأرسلت أذناي إلي مقعده لأسمعه بعنايه حتى قال..

"السبب يا حبيبتي هو أن البيت لم يعد بيت، فمثلاً أنا كانت أمي تهدي إلي كتاب كلما تميزت في شيء ما، حتى أني لم أدرك أنها لا تقرأ إلا في وقت متأخر، أبي كان دائماً يحفزني لحفظ القرآن والمواظبة علي الصلاوات الخمس، لن أنسى صوت قدميه المتجه نحو غرفتى كل ليلة ليصحبنى إلي المسجد، حتى أفلام ومسرحيات التلفزيون كان يختارها بعنايه، كان دائماً يقول أن ما يربي عليه الطفل يشب عليه ويثبت في عقله حتي يشيب، أختصار يا حبيبه التربيه السليمه والمراقبة الحكيمه هي ما يخرج لنا جيل أما فاسد واما حكيماً "

كأن الرجل يقصد أنه لا رقيب في البيت، صادفة كلماته الأخيره مرور شاب وفتاه يمسكان بيد بعضهما، ملابسهما كانت جاذبه جدا، ولن أصفها لك، هنا نظر نحوي، 

"تعجبك الفتاه ام الفتي"

أصابني الذهول فتلعثم لساني، حدقت فيه قليلا

"أبداً لم يعجبني أحدهم، بل صعقتنى كلماتك؛ أذن لى بالاقتراب منك"

لحسن الحظ كان المقعد المجاور له قد فرغ، وهو سمح بذلك، 

"سيدي أنا لست بالقارء او المتابع الجيد لسوق الكتب، لكن أنا متأكد أنك مؤلف عتيق، قرأة لك كتاب ذات مره، لكن ذاكرتي دائماً تخونني"

"لا عليك أبداً، أنا الاحظك منذ بدأ الحديث بينى وبين ابنتي، تسترق السمع، هل جذبك شيء"

لم أجبه فقط أشرت بأنه الكثير، أكمل هو حديثه،. سألني عن حالتى الاجتماعيه وعائلتي، وأشياء أخري لا يهم ذكرها، فسألته "كيف نعالج هذا الامر سيدي"

"اسمع، أن لم نبدأ بانفسنا لن نستطيع أبدا تغير الواقع، أنت وأنا وحبيبه، لو ربي كل واحد منا نفسه واولاده علي كره الحرام والذوق الجميل وعلمهم الكلمات المهذبه، سمعهم وأسمعهم، سيظهر الفارق، نحن من نبنى غد اولادنا، وبذلك نحن المسئولين عن خروج جيل يغلب عليه طابع الفساد، وتدني الزوق" 

"ولما لا تقوم الحكومه مثلاً بمنع هذه الاشياء"

"الحكومات مهما حاولت لن تستطيع منع شيء يحبه الناس، أن لم تستخدمه أحيان كثيره، الرقابه يا ولدي هي الضمير، وهذا ما نعاني غيابه حقيقة"

تكلمة حبيبه أخيراً وليتها لم تتكلم

"أبي علينا أن نتجهز نحن على مشارف المحطه"

سلم علي ورفع نظارته وهو يقول "أمل أن تكون قد أستفدت" ودعته بحرارة وترك توقيعه بعقلي وأنصرف مع أبنته، وجلست أنا على مقعدى الفردي اراقب جانب القطار الفارغ والرصيف المذدحم هذه المره وهو يقول لي "وداعاً أيها المسافر" 

الان قد لا أجد شيء أخر أكتبه لك، غير أنني مستمر في رحلتي للبحث عن أشياء يمكن أن أدونها لك

تمت.  


الكاتب: محمد مرتضي

إرسال تعليق

0 تعليقات